فصل: تفسير الآيات رقم (37- 43)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


سورة الأنبياء

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ‏(‏1‏)‏ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏2‏)‏ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏3‏)‏ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏5‏)‏ مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقترب لِلنَّاسِ حسابهم‏}‏، يعني‏:‏ قربت القيامة كقوله‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏ ‏[‏لقمر‏:‏ 1‏]‏، ويقال‏:‏ معناه اقترب وقت حسابهم، ويقال‏:‏ دنا للناس ما وعدوا في هذا القرآن، ‏{‏وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ‏}‏، أي‏:‏ في جهل وعمى من أمر آخرتهم‏.‏ ‏{‏مُّعْرِضُونَ‏}‏، يعني‏:‏ جاحدين مكذبين؛ وهم كفار مكة ومن كان مثل حالهم‏.‏ ثم نعتهم فقال‏:‏ ‏{‏مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ‏}‏، يعني‏:‏ ما يأتيهم جبريل بالقرآن محدث؛ والمحدث إتيان جبريل بالقرآن مرة بعد مرة، ويقال‏:‏ قراءة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مرة بعد مرة ‏{‏إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ‏}‏، يعني‏:‏ يستمعون لاعبين، ويقال‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَلْعَبُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يهزؤون ويسخرون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ ساهية قلوبهم عن أمر الآخرة‏.‏ ‏{‏وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ‏}‏، يعني‏:‏ أخفوا تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ويتناجون فيما بينهم، ثم بين أمرهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏، معناه وأسروا النجوى يعني‏:‏ الذين ظلموا، ثم بين ما يسرون فقال‏:‏ ‏{‏هَلْ هذا‏}‏، يعني‏:‏ يقولون ما هذا‏:‏ ‏{‏إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ آدميّ مِثلكم‏؟‏ ‏{‏أَفَتَأْتُونَ السحر‏}‏، يعني‏:‏ أفتصدقون الكذب‏؟‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ‏}‏ وتعلمون أنه سحر‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ محمد‏:‏ ‏{‏رَبّى يَعْلَمُ القول‏}‏، يعني‏:‏ السر، فأعلمهم الله تعالى أنه يعلم قولهم، وأطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على سرهم وعلانيتهم فقال‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبّى يَعْلَمُ القول‏}‏‏.‏ ‏{‏فِى السماء والارض‏}‏، أي‏:‏ يعلم سر أهل السموات وسر أهل الأرض‏.‏ قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ‏{‏قَالَ رَبّى يَعْلَمُ‏}‏ على معنى الخبر، وقرأ الباقون على معنى الأمر‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ السميع‏}‏ لمقالتهم، ‏{‏العليم‏}‏ بهم وبعقوبتهم‏.‏

‏{‏بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ‏}‏، يعني‏:‏ أباطيل أحلام كاذبة؛ وقال أهل اللغة‏:‏ لا يكون الضغث إلا من أخلاط شتى؛ فلذلك يقال أضغاث أحلام، أي‏:‏ لما فيها من التخاليط‏.‏ وهو كل حلم لا يكون له تأويل ومن هذا قوله‏:‏ ‏{‏وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً‏}‏، أي‏:‏ أخلاط العيدان عدد مائة، ويقال‏:‏ في الآية تقديم ومعناه بل قالوا أضغاث أحلام‏.‏ ‏{‏بَلِ افتراه‏}‏، يعني‏:‏ اختلقه من تلقاء نفسه‏.‏ ‏{‏بَلْ هُوَ شَاعِرٌ‏}‏، يعني‏:‏ ينقضون قولهم بعضهم ببعض، مرة يقولون سحر، ومرة يقولون أضغاث أحلام‏.‏ ‏{‏بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ بَلِ‏}‏، يعني‏:‏ يقولون‏:‏ فأتنا بآية أي‏:‏ بعلامة كما في الرسل الأولين‏.‏ فأخبر الله تعالى أنهم لم يؤمنوا، وإن أتاهم بآية، فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا ءامَنَتْ قَبْلَهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ قبل كفار مكة‏.‏ ‏{‏مِن قَرْيَةٍ‏}‏ من للصلة والزينة، يعني‏:‏ لم يصدق قبلهم أهل قرية للرسل، أي‏:‏ إذا جاءتهم بالآيات‏.‏ ‏{‏أهلكناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ أفقومك يصدقون إذا جاءتهم الآيات‏؟‏ أي‏:‏ لا يؤمنون/

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 12‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏7‏)‏ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ‏(‏9‏)‏ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏10‏)‏ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏11‏)‏ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ‏}‏، يعني‏:‏ لم أرسل إليهم الملائكة بالرسالة وكانت الرسل من الآدميين‏.‏ ‏{‏فاسألوا أَهْلَ الذكر‏}‏، يعني‏:‏ أهل التوراة والإنجيل‏.‏ ‏{‏إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏، أي‏:‏ لا تصدقون؛ وذلك أن أهل مكة قالوا‏:‏ لو أراد الله تعالى أن يبعث إلينا رسولاً لأرسل ملائكة‏.‏ قرأ عاصم في رواية حفص ‏{‏نُوحِى‏}‏ بالنون وكذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏، وقرأ حمزة والكسائي الأول بالياء والثاني بالنون، والباقون كليهما بالياء وهو اختيار أبي عبيد‏.‏

‏{‏وَمَا جعلناهم جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام‏}‏، يعني‏:‏ ما خلقنا الرسل جسداً لا يأكلون ولا يشربون، ولكن جعلناهم أجساداً فيها أرواح يأكلون ويشربون‏.‏ وقال ‏{‏جَسَداً‏}‏ ولم يقل أجساداً، لأن الواحد ينبئ عن الجماعة، ويقال‏:‏ معناه وما جعلناهم ذوي أجساد لا يأكلون الطعام، لأنهم قالوا‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الاسواق لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ خالدين‏}‏، يعني‏:‏ في الدنيا‏.‏ ‏{‏ثُمَّ صدقناهم الوعد‏}‏، يعني‏:‏ العذاب للكفار والنجاة للأنبياء‏.‏ عليهم السلام‏.‏ ‏{‏فأنجيناهم وَمَن نَّشَاء‏}‏، يعني‏:‏ فأنجينا الأنبياء عليهم السلام ومن نشاء من المؤمنين، ‏{‏وَأَهْلَكْنَا المسرفين‏}‏؛ يعني‏:‏ المشركين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ القرآن فيه عزكم وشرفكم، يعني‏:‏ شرف العرب‏.‏ والذكر يوضع موضع الشرف، لأن الشرف يذكر، ويقال ‏{‏ذِكْرُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فيه تذكرة لكم ما ترجون من رحمة وتخافون من عذابه كما قال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏فِيهِ ذِكْرُكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ما تُعْنون به من أمر دنياكم وآخرتكم وما بينكم؛ وقال الحسن‏:‏ ‏{‏فِيهِ ذِكْرُكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ أمسك به عليكم دينكم وفيه بيان حلالكم وحرامكم، ويقال‏:‏ وعدكم ووعيدكم ثم قال‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أن فيه عزكم وشرفكم فتؤمنون به‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا‏}‏ القَصم الكسر يعني كم أهلكنا ‏{‏مِن قَرْيَةٍ‏}‏، يعني‏:‏ أهل قرية‏؟‏ ‏{‏كَانَتْ ظالمة‏}‏، أي‏:‏ كافرة، ‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ‏}‏؛ يعني‏:‏ خلقنا بعد هلاكها قوماً آخرين خيراً منهم، فسكنوا ديارهم‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا‏}‏، يعني‏:‏ رأوا عذابنا، ‏{‏إِذَا هُمْ *** يَرْكُضُونَ‏}‏؛ يعني‏:‏ يهربون ويعدون؛ وقال القتبي‏:‏ أصل الركض تحريك الرجلين‏.‏ يقال‏:‏ ركضت الفرس إذا أعديته بتحريك رجليك‏.‏ ومنه قوله‏:‏ ‏{‏اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 17‏]‏

‏{‏لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ‏(‏13‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏14‏)‏ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ‏(‏15‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏16‏)‏ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لاَ تَرْكُضُواْ‏}‏ يعني‏:‏ قالت الملائكة عليهم السلام لا تهربوا وقال قتادة‏:‏ هذا على وجه الاستهزاء، وقال مقاتل‏:‏ لما انهزموا قالت لهم الملائكة عليهم السلام كهيئة الاستهزاء‏:‏ لا تركضوا وقال القتبي‏:‏ هذا كما قال لبيد‏:‏

هَلا سَأَلْتَ جُمُوعَ كِنْدَة *** يَوْمَ وَلَّوْا أَيْنَ أَيْنَا

قال ابن عباس‏:‏ إن قرية من قرى اليمن يقال لها حصور، أرسل الله تعالى إليهم نبياً فكذبوه ثم قتلوه، فسلط الله عز وجل عليهم بختنصر فقتلهم وهزمهم، فقالت لهم الملائكة عليهم السلام حين انهزموا‏:‏ لا تركضوا يعني‏:‏ لا تهربوا‏.‏ ‏{‏وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ خولتم فيه من أمر دنياكم ‏{‏ومساكنكم لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ‏}‏‏.‏ عن قتل نبيكم؛ ويقال‏:‏ عن الإيمان‏.‏ ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا *** قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين‏}‏ بقتل نبينا عليه السلام ويقال‏:‏ بالشرك بالله عز وجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ كلمة الويل قولهم‏.‏ ‏{‏حتى جعلناهم حَصِيداً خامدين‏}‏، يعني‏:‏ محصوداً‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ فعيل بمعنى مفعول، والحصيد بمعنى محصود، ويقع على الواحد والاثنين والجماعة؛ وقال السدي‏:‏ الحصيد الذي قد حصد، ويقال‏:‏ كداسة الغنم بأظلافها خامدين ميتين لا يتحركون؛ وقال مجاهد رحمه الله‏:‏ ‏{‏خامدين‏}‏ بالسيف‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السماء والارض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ من الخلق والعجائب ‏{‏لاَعِبِينَ‏}‏، أي‏:‏ لغير شيء ولكن خلقناهم لأمر كائن، ويقال‏:‏ وما خلقت هذه الأشياء، إلا ليعتبروا ويتفكروا فيها ويعلموا أن خالق هذه الأشياء أحق بالعبادة من غيره ويكون لِيَ عليهم الحجة يوم القيامة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً‏}‏ يعني‏:‏ زوجةً بلغة حضرموت، ‏{‏لاتخذناه مِن لَّدُنَّا‏}‏؛ يعني‏:‏ من عندنا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ اللهو الولد، وقال الحسن وقتادة‏:‏ اللهو المرأة، وقال القتبي‏:‏ التفسيران متقاربان، لأن المرأة للرجل لهو وولده لهو كما يقال‏:‏ ريحانتاه وأصل اللهو الجماع؛ فكني به بالمرأة والولد كما كني عنه باللمس‏.‏ وتأويل الآية أن النصارى لما قالوا، في المسيح ما قالوا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتخذناه مِن لَّدُنَّا‏}‏ أي‏:‏ صاحبةً وولداً، لاتخذنا ذلك من عندنا لا من عندكم، لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِن كُنَّا فاعلين‏}‏ يعني‏:‏ ما كنا فاعلين‏.‏ ويجوز أن يكون إن كنا ممن يفعل ذلك، ولسنا ممن يفعله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 23‏]‏

‏{‏بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ‏(‏19‏)‏ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ‏(‏21‏)‏ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏بَلْ نَقْذِفُ بالحق‏}‏، يعني‏:‏ بالحق ‏{‏عَلَى الباطل‏}‏، ومعناه نبيِّن الحق من الباطل‏.‏ ‏{‏فَيَدْمَغُهُ‏}‏، أي‏:‏ يبطله ويضمحل به‏.‏ ويقال‏:‏ يكسره‏.‏ وقال أهل الله‏:‏ أصل هذا إصابة الرأس والدماغ بالضرب وهو مقتل‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ‏}‏، يعني‏:‏ هالك، ويقال‏:‏ زاهق أي‏:‏ زائل ذاهب‏.‏ قال الفقيه أبو الليث رحمه الله‏:‏ في الآية دليل أن النكتة إذا قابلتها نكتة أخرى على ضدها سقط الاحتجاج بها، لأنها لو كانت صحيحة ما عارضها غيرها، لأن الحق لا يعارضه الباطل ولكن يغلب عليه فيدمغه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَكُمُ الويل‏}‏، يعني‏:‏ الشدة من العذاب وهم النصارى‏.‏ ‏{‏مِمَّا تَصِفُونَ‏}‏، يعني‏:‏ تقولون من الكذب على الله‏.‏

‏{‏وَلَهُ مَن فِى السموات والارض‏}‏ من الخلق‏.‏ ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ‏}‏ من الملائكة ‏{‏لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏، يعني‏:‏ لا يتعظمون ‏{‏عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ‏}‏ يعني لا يعيون‏.‏ الحسير المنقطع الواقف إعياء‏.‏ روي عن عبد الله بن الحارث أنه قال‏:‏ قلت لكعب الأحبار‏.‏ رضي الله عنه أرأيت قوله‏:‏ ‏{‏يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ‏}‏‏.‏ أما شغلهم رسالة، أما شغلهم عمل‏؟‏ فقال لي‏:‏ ممن أنت‏؟‏ فقلت من بني عبد المطلب‏.‏ فضمني إليه ثم قال‏:‏ يا ابن أخي إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لنا النفس ألست تأكل وتشرب وتذهب وتجيء وأنت تتنفس‏؟‏ كذلك جعل لهم التسبيح‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَمِ اتخذوا الِهَةً‏}‏‏؟‏ الميم صلة معناه أعبدوا من دون الله آلهةً، ويقال‏:‏ بل عبدوا آلهة‏.‏ ‏{‏مّنَ الارض‏}‏، يعني‏:‏ اتخذوها من الأرض ويقال‏:‏ من الأرض يعني‏:‏ في الأرض‏.‏ ‏{‏هُمْ يُنشِرُونَ‏}‏، يعني‏:‏ هل يحيون تلك الآلهة شيئاً، وقرئ أيضاً ‏{‏يُنشِرُونَ‏}‏ بضم الياء ونصب الشين‏.‏ هل يحيون أبداً لا يموتون‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله‏}‏ يعني‏:‏ لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله، ‏{‏لَفَسَدَتَا‏}‏؛ يعني‏:‏ لخربت السموات والأرض ولهلك أهلها، يعني‏:‏ أن التدبير لم يكن مستوياً ثم نزّه نفسه عن الشريك فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فسبحان الله رَبّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏؛ يعني‏:‏ عما يقولون من الكذب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ‏}‏، يعني‏:‏ عما يحكم في خلقه من المغفرة والعقوبة، لأنه عادل ليس بجائر‏.‏ ‏{‏وَهُمْ يُسْئَلُونَ‏}‏، عما يفعلون بعضهم ببعض، لأنهم يجورون ولا يعدلون ومعناه، لا يسأل عما يفعل على وجه الاحتجاج عليه، ولكن يسأل عن معنى الاستكشاف والبيان، كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتنى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 125‏]‏‏.‏ وروي عن مجاهد أنه قال‏:‏ لا يسأل عن قضائه وقدره وهم يسألون عن أعمالهم، ويقال‏:‏ لا يسأل عما يفعل لأنه ليس فوقه أحد وهم يسألون، لأنهم مملوكون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 30‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏24‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ‏(‏25‏)‏ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ‏(‏26‏)‏ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ‏(‏28‏)‏ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً‏}‏ الميم صلة، يعني‏:‏ أعبدوا من دونه آلهة‏؟‏ ‏{‏قُلْ هَاتُواْ برهانكم‏}‏، يعني‏:‏ حجتكم وكتابكم الذي فيه عذركم‏.‏ ‏{‏هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ‏}‏ إلى يوم القيامة ‏{‏وَذِكْرُ مَن قَبْلِى‏}‏؛ يعني‏:‏ خبر من قبلي، فلا أجد فيه أن الشرك كان مباحاً في وقت من الأوقات ويقال‏:‏ ‏{‏هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى‏}‏، يعني‏:‏ القرآن وكتب الأولين‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق‏}‏ يعني لا يصدقون بالقرآن ويقال بالتوحيد‏.‏ ‏{‏فَهُمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏، يعني‏:‏ مكذبون بالقرآن والتوحيد‏.‏ ثم بين ما أمر في جميع الكتب للرسل، فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ‏}‏، كما يوحى إليك ‏{‏أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون‏}‏، يعني‏:‏ وحدون‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً‏}‏ وذلك حين قال مشركو قريش في الملائكة ما قالوا فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ نزه نفسه عن الولد‏.‏ ‏{‏بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ‏}‏، يعني‏:‏ بل عبيد أكرمهم الله تعالى بعبادته‏.‏ ‏{‏لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول‏}‏، يعني‏:‏ لا يقولون ولا يعملون شيئاً ما لم يأمرهم‏.‏ ‏{‏وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يعملون ما يأمرهم به ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ من أمر الآخرة‏.‏ ‏{‏وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ من أمر الدنيا، ‏{‏وَلاَ يَشْفَعُونَ‏}‏؛ يعني‏:‏ الملائكة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ لِمَنِ ارتضى‏}‏ يعني لمن رضي عنه بشهادة أن لا إله إلا الله‏.‏ ‏{‏وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ‏}‏، يعني‏:‏ من هيبته خائفون، لأنهم عاينوا أمر الآخرة فيخافون عاقبة الأمر‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ من الملائكة‏:‏ ‏{‏إِنّى إله مّن دُونِهِ‏}‏، يعني‏:‏ من دون الله، ولم يقل ذلك غير إبليس عدو الله‏.‏ ‏{‏فَذَلِكَ‏}‏، يعني‏:‏ ذلك القائل ‏{‏نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظالمين‏}‏، أي‏:‏ الكافرين‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ *** يَرَ الذين كَفَرُواْ‏}‏، يعني‏:‏ أولم يخبروا في الكتاب‏؟‏ قرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ‏}‏ بغير واو والباقون ‏{‏أَوَ لَمْ‏}‏ بالواو ومعناهما قريب‏.‏ ‏{‏ءانٍ السموات والارض ***** كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما‏}‏، يعني‏:‏ فرقناهما وأبنا بعضها من بعض؛ وقال مجاهد‏:‏ كانت السماء لا تمطر والأرض لا تنبت، ففتقناهما بالمطر والنبات، وقال القتبي‏:‏ كانتا منضمتين ففتقناهما، ففتقنا السماء بالمطر، والأرض بالنبات وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ كانت السموات واحدة والأرض واحدة، فتفتقت السماء سبعاً، والأرض مثلهن؛ وقال الزجاج‏:‏ ذكر السموات والأرض ثم قال‏:‏ ‏{‏كَانَتَا رَتْقاً‏}‏ ففتقناهما، لأن السموات يعبر عنها بالسماء بلفظ الواحد، وأن السموات كانت سماء واحدة وكذلك الأرض؛ والمعنى أن السموات كانت واحدة ففتقتها وجعلتها سبعاً، وكذلك الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ إنما فتقت السماء بالمطر والأرض بالنبات بدليل قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَئ حَىّ‏}‏، فقال‏:‏ رتقاً ولم يقل رتقين، لأن الرتق مصدر، والمعنى كانتا ذواتي رتق، ودلهم بهذا على توحيده حيث قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَئ حَىّ‏}‏ يعني‏:‏ جعلنا الماء حياة كل شيء وهو قول مقاتل؛ وقال قتادة‏:‏ خلق كل شيء حي من الماء؛ وقال أبو العالية رحمه الله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنَ الماء‏}‏ يعني‏:‏ من النطفة‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ أفلا يصدقون بتوحيد الله بعد هذه العجائب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 36‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏31‏)‏ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏32‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ‏(‏33‏)‏ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ‏(‏34‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ‏(‏35‏)‏ وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا فِى الارض رَوَاسِىَ‏}‏، يعني‏:‏ الجبال الثقال الثوابت‏.‏ ‏{‏أَن تَمِيدَ بِهِمْ‏}‏، يعني‏:‏ كيلا تميل؛ ويقال‏:‏ كراهية أن تميل بكم‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً‏}‏، يعني‏:‏ في الأرض وفي الجبال أودية‏.‏ والفجاج‏:‏ جمع فج وهو كل شيء مخترق بين جبلين ‏{‏سُبُلاً‏}‏ يعني‏:‏ طرقاً‏.‏ ‏{‏لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏، أي لكي يعرفوا الطرق‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً‏}‏ من الشياطين ويقال‏:‏ محفوظاً من السقوط كيلا تسقط عليهم‏.‏ ‏{‏وَهُمْ عَنْ ءاياتها مُعْرِضُونَ‏}‏ يعني‏:‏ عن شمسها وقمرها ونجومها وما فيها من الأدلة والعبر معرضون، يعني‏:‏ لا يتفكرون فيها‏.‏ وقرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏وَهُمْ عَنْ ءاياتها مُعْرِضُونَ‏}‏ ومعناه إن السماء بنفسها أعظم آية، لأنها متمسكة بقدرته‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى خَلَقَ اليل والنهار‏}‏، يعني‏:‏ الظلمة والضوء‏.‏ ‏{‏والشمس والقمر كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏، أي في دوران يجرون‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يعني‏:‏ يجرون في فلك السلام، وقال الكلبي‏:‏ كل شيء يدور فهو فلك؛ وقال القتبي‏:‏ الفلك القطب الذي تدور به النجوم، وهو كوكب خفي بقرب الفرقدين وبنات نعش عليه تدور السماء فقد ذكر بلفظ النعل يسبحون، لأنه وصف منهم الفعل كما ذكر من العقلاء‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد‏}‏، يعني‏:‏ في الدنيا ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن‏}‏؛ وذلك أن أناساً من الكفار قالوا؛ إن محمداً يموت، فنزل‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً‏}‏، يعني‏:‏ بالغنى والفقر والرخاء والشدة ‏{‏فِتْنَةً‏}‏، يعني‏:‏ اختباراً لهم‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ‏}‏ في الآخرة‏.‏ قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين ‏{‏يَرْجِعُونَ‏}‏ بالياء بلفظ المغايبة، وقرأ الباقون ‏{‏تُرْجَعُونَ‏}‏ بالتاء على معنى المخاطبة، وقرأ ابن عامر في إحدى الروايتين ‏{‏يَرْجِعُونَ‏}‏ بنصب الياء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ‏}‏؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأبي سفيان بن حرب، وأبي جهل بن هشام، فقال أبو جهل لأبي سفيان‏:‏ هذا نبي بني عبد مناف‏.‏ يقول ذلك كالمستهزئ، فنزل قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً‏}‏، يعني‏:‏ ما يقولون لك إلا سخرية‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أهذا الذى يَذْكُرُ الِهَتَكُمْ‏}‏ بالسوء‏؟‏ ويقال‏:‏ أهذا الذي يعيب آلهتكم‏؟‏ ‏{‏وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كافرون‏}‏، يعني‏:‏ جاحدون تاركون؛ وهذا كقوله عز وجل ‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 45‏]‏ قال الكلبي‏:‏ وذلك حين نزل ‏{‏إنى أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏ فقال أهل مكة‏:‏ ما يعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب، فنزل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أهذا الذى يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كافرون‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 43‏]‏

‏{‏خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏37‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏39‏)‏ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏40‏)‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏41‏)‏ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏42‏)‏ أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ‏}‏، أي مستعجلاً بالعذاب وهو النضر بن الحارث، وقال القتبي‏:‏ ‏{‏خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ‏}‏ أي خلقت العجلة في الإنسان؛ ويقال‏:‏ إن آدم عليه السلام استعجل حين خلق، واستعجل كفار قريش نزول العذاب، كما استعجل آدم عليه السلام قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏عَنْ ءاياتي‏}‏؛ قال الكلبي رحمه الله‏:‏ هو ما أصاب قوم نوح وقوم هود وصالح، وكانت قريش يسافرون في البلدان فيرون آثارهم ومنازلهم، ويقال‏:‏ يعني‏:‏ القتل ببدر، ويقال‏:‏ يعني‏:‏ يوم القيامة‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ‏}‏ بنزول العذاب‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ البعث ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ إن كنت صادقاً فيما تعدنا أن نبعث‏؟‏ فنزل قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ‏}‏، يعني‏:‏ لا يصرفون ولا يرفعون‏.‏ ‏{‏عَن وُجُوهِهِمُ النار‏}‏، لأن أيديهم تكون مغلولة، ‏{‏وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ‏}‏ في الآخرة، ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏؛ يعني‏:‏ لا يمنعون عما نزل بهم من العذاب‏.‏ وجوابه مضمر، يعني‏:‏ لو علموا ذلك الآن لامتنعوا من الكفر والتكذيب‏.‏

‏{‏بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً‏}‏، يعني‏:‏ الساعة تأتيهم فجأة، ‏{‏فَتَبْهَتُهُمْ‏}‏؛ يعني‏:‏ فتفجؤهم، ‏{‏فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا‏}‏، أي صرفها عن أنفسهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏، يعني‏:‏ لا يمهلون ولا يؤجلون‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ‏}‏ كما استهزأ بك قومك، ‏{‏فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ‏}‏؛ أي نزل بالذين سخروا منهم، ‏{‏مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏، يعني‏:‏ العذاب الذي كانوا به يستهزئون‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم‏}‏ يعني‏:‏ من يحفظكم ‏{‏باليل والنهار مِنَ الرحمن‏}‏ يعني‏:‏ من عذاب الرحمن، معناه من يمنعكم من عذاب الرحمن إلا الرحمن‏؟‏ ‏{‏بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ‏}‏، يعني‏:‏ عن التوحيد والقرآن‏.‏ ‏{‏مُّعْرِضُونَ‏}‏ مكذبون تاركون‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ الِهَةٌ‏}‏؛ الميم صلة يعني‏:‏ ألهم آلهة‏.‏ ‏{‏تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا‏}‏، يعني‏:‏ من عذابنا‏.‏ ‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ‏}‏، يعني‏:‏ لا تقدر الآلهة أن تمنع نفسها من العذاب أو السوء، إن أرادوا بها فكيف ينصرونكم‏؟‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ‏}‏، يعني‏:‏ يأمنون من عذابنا، وقال مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ ولا هم منا ينصرون؛ وقال السدي‏:‏ لا نصحبهم فندفع عنهم في أسفارهم؛ وقال القتبي‏:‏ أي لا يجارون، لأن المجير صاحب لمجاره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 50‏]‏

‏{‏بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ‏(‏45‏)‏ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏46‏)‏ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء‏}‏، يعني‏:‏ أجلناهم وأمهلناهم ‏{‏وَءابَاءهُمْ‏}‏ من قبلهم‏.‏ ‏{‏حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر‏}‏، يعني‏:‏ الأجل‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ يَرَوْنَ‏}‏، يعني‏:‏ أفلا ينظر أهل مكة‏؟‏ ‏{‏أَنَّا نَأْتِى الارض نَنقُصُهَا‏}‏، أي نأخذ ونفتح الأرض ننقصها‏.‏ ‏{‏مِنْ أَطْرَافِهَا‏}‏‏؟‏ ما حول مكة، أي ننقصها بمحمد صلى الله عليه وسلم من نواحيها؛ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ نقبض أرواح أشراف أهل مكة ورؤسائها؛ وقال الحسن‏:‏ هو ظهور المسلمين على المشركين؛ وروى عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ هو موت فقهائها وذهاب خيارها؛ وقال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ السبي والقتل والخراب‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَهُمُ الغالبون‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ أن الله تعالى هو الغالب وهم المغلوبون‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بالوحى‏}‏، يعني‏:‏ بما نزل من القرآن‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ‏}‏، يعني‏:‏ أن من يتصامم لا يسمع الدعاء إذا ما يخوَّفون‏.‏ قرأ ابن عامر ‏{‏وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء‏}‏ بالتاء بلفظ المخاطبة، ومعناه أن لا تقدر أن تسمع الصم الدعاء إِذا ما ينذرون، يعني‏:‏ إذا خوفوا؛ والباقون ‏{‏وَلاَ يَسْمَعُ‏}‏ بالياء على وجه الحكاية‏.‏

ثم أخبر عن قلة صبرهم عند العذاب فقال‏:‏ ‏{‏وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ‏}‏، يعني‏:‏ من أصابتهم عقوبة من عذاب ربك، ويقال‏:‏ لئن أصابهم العذاب أي طرف من العذاب، ويقال‏:‏ أدنى شيء من عذاب ربك‏.‏ ‏{‏لَيَقُولُنَّ ياويلنا *** قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين‏}‏، أي ظلمنا أنفسنا بترك الطاعة لله‏.‏ ‏{‏وَنَضَعُ الموازين القسط‏}‏، يعني‏:‏ ميزان العدل ‏{‏لِيَوْمِ القيامة‏}‏، يعني‏:‏ في يوم القيامة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هو ميزان له كفتان، وله لسانان يوزن به الأعمال الحسنات والسيئات، فيجاء بالحسنات في أحسن صورة ويجاء بالسيئات في أقبح صورة‏.‏ ‏{‏فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً‏}‏، يعني‏:‏ لا ينقص من ثواب أعمالهم شيئاً؛ ‏{‏وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ‏}‏، يعني‏:‏ وزن حبة ‏{‏مّنْ خَرْدَلٍ‏}‏‏.‏ قرأ نافع ‏{‏مِثْقَالَ حَبَّةٍ‏}‏ بضم اللام؛ وقرأ الباقون بالنصب؛ فمن قرأ بالرفع فمعناه وإن حصل للعبد مثقال حبة من خردل، ومن قرأ بالنصب معناه وإن كان العمل مِثْقَالَ حَبَّة يصير خبر كان ‏{‏أَتَيْنَا بِهَا‏}‏، يعني‏:‏ جئنا بها وأحضرناها، وقرأ بعضهم ‏{‏ءاتَيْنَا‏}‏ بالمد، يعني‏:‏ جازينا بها وأعطينا بها، وقراءة العامة بغير مد‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وكفى بِنَا حاسبين‏}‏، يعني‏:‏ مجازين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان‏}‏؛ يقول‏:‏ النصرة والنجاة، فنصر موسى وهارون وأهلك عدوهما فرعون‏.‏ ‏{‏وَضِيَاء‏}‏، يعني‏:‏ الذي أنزل عليهما من الحلال والحرام في الكتاب‏.‏ قرأ ابن كثير ‏{‏***وَضِئَاءً‏}‏ بهمزتين، والباقون بهمزة واحدة‏.‏ ‏{‏وَضِيَاء وَذِكْراً‏}‏، يعني‏:‏ عظة ‏{‏لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ الذين يتقون الكفر والفواحش والكبائر، وقال مجاهد‏:‏ الفرقان الكتاب، وقال السدي‏:‏ الفرقان والنصر والضياء النور وذكراً قال التوراة، وقال مقاتل‏:‏ الفرقان والتوراة؛ وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان *** ضِيَاء **وَذِكْراً‏}‏، يعني‏:‏ أعطيناهما التوراة نوراً وعظة؛ ويروى، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقرأ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان *** ضِيَاء‏}‏ بغير واو وقال‏:‏ اجعلوا هذه الواو عند قوله‏:‏ ‏{‏والذين استجابوا *** لِلَّهِ‏}‏‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب‏}‏، يعني‏:‏ يعملون لربهم في غيب عنه، والله تعالى لا يغيب عنه شيء‏.‏ ‏{‏وَهُمْ مّنَ الساعة مُشْفِقُونَ‏}‏، يعني‏:‏ من عذاب الساعة خائفون‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ‏}‏، يعني‏:‏ هذا القرآن ذكر مبارك، يعني‏:‏ فيه السعادة والمغفرة للذنوب والنجاة لمن آمن به‏.‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏ لكم ‏{‏أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ أفأنتم للقرآن مكذبون جاحدون‏؟‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 60‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ‏(‏51‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ‏(‏53‏)‏ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏54‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ‏(‏55‏)‏ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏56‏)‏ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ‏(‏57‏)‏ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ‏(‏58‏)‏ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏59‏)‏ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ مِن قَبْلُ‏}‏، يعني‏:‏ أكرمناه بالمغفرة من قبل النبوة؛ وقال مقاتل‏:‏ من قبل موسى وهارون؛ وقال مجاهد‏:‏ من قبل بلوغه؛ وقال الكلبي‏:‏ يقول ألهمناه رشدَه الخير، وهديناه قبل بلوغه؛ ويقال من قبل محمد صلى الله عليه وسلم القرآن‏.‏ ‏{‏وَكُنَّا بِهِ عالمين‏}‏ بأنه أهل للرشد، ويقال‏:‏ للنبوة، ويقال‏:‏ ‏{‏وَكُنَّا بِهِ عالمين‏}‏‏.‏ ‏{‏إِذْ قَالَ‏}‏، يعني‏:‏ حين قال ‏{‏لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل‏}‏‏؟‏ أي التصاوير، يعني‏:‏ الأصنام، ‏{‏التى أَنتُمْ لَهَا عاكفون‏}‏؛ أي عابدون؛ ويقال‏:‏ التي عليها مقيمين‏.‏ روى ميسرة النهدي أن علياً رضي الله عنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج، فقال‏:‏ ‏{‏مَا هذه التماثيل التى أَنتُمْ لَهَا عاكفون‏}‏‏.‏

فلما قال لهم ذلك إبراهيم، ‏{‏قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين‏}‏، يعني‏:‏ فنحن نعبدها‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم إبراهيم‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏، يعني‏:‏ في خطإ بَيِّنٍ‏.‏ قال السدي‏:‏ كان أبوه يصنع الأصنام، يبعث بها مع بنيه فيبيعونها، فبعث إبراهيم بصنم ليبيعه، فجعل ينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه؛ وكان إخوته يبيعون ولا يبيع هو شيئاً، وقال أنتم في ضلال مبين‏.‏

‏{‏قَالُواْ أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين * قَالَ‏}‏ إبراهيم بل أقول لكم حقاً وأدعوكم إلى عبادة الله تعالى‏.‏ ‏{‏بَلِ‏}‏ هو ‏{‏رَبُّكُمْ‏}‏، أي خالقكم ورازقكم‏.‏ ‏{‏رَبّ * السموات والارض‏}‏، هو ربكم ‏{‏الذى فطَرَهُنَّ‏}‏، يعني‏:‏ هو الذي خلقهن‏.‏ ‏{‏وَأَنَاْ على ذلكم مّنَ الشاهدين‏}‏ بأن الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ هو ربكم، قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وتالله لاكِيدَنَّ أصنامكم‏}‏، يعني‏:‏ قال إبراهيم‏:‏ والله لأكسرن أصنامكم‏.‏ ‏{‏بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ‏}‏، يعني‏:‏ بعد أن تنطلقوا ذاهبين إلى عيدكم‏.‏

وذلك أن القوم كانوا أرادوا أن يخرجوا إلى عيد لهم، فقالوا لإبراهيم‏:‏ اخرج معنا حتى تنظر إلى عيدنا‏.‏ وكان القوم في ذلك الزمان ينظرون إلى النجوم فينظر أحدهم ويقول‏:‏ إنه يصيبني كذا وكذا من الأمر‏.‏ وكان ذلك معروفاً عندهم، وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يخلفوا بعدهم إلا من كان مريضاً ‏{‏فَنَظَرَ *** إِبْرَاهِيمَ **نَظْرَةً فِى النجوم * فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ أشتكي غداً‏.‏ فأصبح من الغد معصوباً رأسه، وخرج القوم إلى عيدهم، ولم يتخلف أحد غيره‏.‏ فلما خرج القوم، قال إبراهيم‏:‏ أما والله لأكيدن أصنامكم‏.‏ فسمعه رجل منهم فحفظها عليه‏.‏ فأخذ إبراهيم فأساً ويقال قَدُوماً، جاء إلى بيت أصنامهم؛ وكانوا قد وضعوا ألوان الطعام بين أيديهم؛ فإِذا رجعوا من عيدهم، رفعوا ذلك الطعام ويأكلون تبركاً‏.‏ ودخل إبراهيم بيت الأصنام، فرأى ذلك الطعام بين أيديهم، فقال‏:‏ أَلاَ تَأَكُلُونَ‏؟‏ فلم يجيبوه، فقال‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ *** فَأَقْبَلَ * عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين‏}‏، يعني‏:‏ جعل يضرب القوم بيده؛ وقال السدي‏:‏ قطع رؤوسها كلها؛ وقال ابن عباس‏:‏ كسرها كسراً؛ وقال بعضهم‏:‏ نَحَتَ وجوههم؛ وقال بعضهم‏:‏ قطع يد بعضهم ورجل بعضهم وأُذُنَ بعضهم، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً‏}‏، يعني‏:‏ فتاتاً؛ ويقال كسرهم قطعاً قطعاً‏.‏

وقال أهل اللغة‏:‏ كل شيء كسرته فقد جذذته؛ وقال أبو عبيد‏:‏ يعني‏:‏ فتاتاً ويقال‏:‏ كسرهم أي استأصلهم، ويقال‏:‏ جذَّ الله دابرهم أي استأصلهم؛ وقرأ الكسائي‏:‏ ‏{‏جُذَاذاً‏}‏ بالكسر؛ والباقون بالضم‏.‏ وقُرِئ في الشاذ ‏{‏جُذَاذاً‏}‏ بالنصب، ومعناه قريب بعضها من بعض، وهو الكسر‏.‏

‏{‏إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ‏}‏ لم يكسره وتركه على حاله، وقال الزجاج‏:‏ يحتمل الكبير في الخلقة، ويحتمل أكبر ما عندهم في تعظيمهم‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ‏}‏، يعني‏:‏ إلى الصنم الأكبر؛ ويقال‏:‏ يرجعون إلى قوله باحتجاجه عليهم لوجوب الحجة عليهم، فجعل القدوم على عنق ذلك الصنم الأكبر‏.‏ فلما رجعوا من عيدهم، نظروا إلى آلهتهم مكسرة؛ ويقال‏:‏ حين دخل إبراهيم بيت الأصنام، كان عندهم خدم، يعني‏:‏ الوصائف، فخرجن وقلن‏:‏ إن هذا الرجل مريض، جاء يطلب من الآلهة العافية‏.‏ فلما خرج إبراهيم ودخلن، فنظرن إلى الأصنام مقطوعة الرأس، فخرجن إلى الناس بالويل والصياح وأخبرنهم بالقصة، فتركوا عيدهم ودخلوا فلما رأوا ذلك، ‏{‏قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين‏}‏ في فعله‏.‏ ‏{‏قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ‏}‏، أي يَعيبهُمْ؛ ويقال‏:‏ أخبر الرجل الذي سمع منه فقال‏:‏ إني سمعت فتى يذكرهم قال‏:‏ تالله لأكيدن أصنامكم‏.‏ ‏{‏يُقَالُ لَهُ إبراهيم‏}‏‏.‏ صار إبراهيمُ رفعاً، بمعنى يقال له هو إبراهيم؛ وقال‏:‏ يحتمل يقال له إبراهيم رفع على معنى النداء المفرد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 71‏]‏

‏{‏قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏62‏)‏ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ‏(‏63‏)‏ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏64‏)‏ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ‏(‏65‏)‏ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ‏(‏66‏)‏ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏68‏)‏ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏69‏)‏ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ‏(‏70‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ‏}‏، يعني‏:‏ يشهدون عليه بما يعرفون منه؛ ويقال‏:‏ يشهدون عقوبتهم له‏.‏ قال‏:‏ فجاؤوا به إلى ملكهم النمرود بن كنعان‏.‏ ‏{‏قَالُواْ‏}‏، أي قال له الملك‏:‏ ‏{‏قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَا *** إِبْرَاهِيمَ *** قَالَ‏}‏ إبراهيم؛ ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا‏}‏، يعني‏:‏ عظيم عندكم‏.‏ وإنما قال هذا على وجه الاستهزاء، لا على وجه الجد‏.‏ ‏{‏قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ إن كانوا يتكلمون، فسألوهم من فعل هذا بكم‏.‏ ‏{‏فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ‏}‏، فلاموها يعني‏:‏ إلى أصحابهم‏.‏ ‏{‏فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون‏}‏، يعني‏:‏ حَيْثُ قلتم إن إبراهيم كَسَّرها‏.‏

‏{‏ثُمَّ نُكِسُواْ على *** رُؤُوسَهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ رجعوا إلى قولهم الأول، وقال القتبي‏:‏ أي ردوا إلى ما كانوا يعرفون من أنها لا تنطق، فقالوا‏:‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ‏}‏ يا إبراهيم، يعني‏:‏ تعلم أنهم لا يتكلمون يا إبراهيم‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم إبراهيم‏:‏ ‏{‏أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً‏}‏‏؟‏ إنْ عبدتموهم، ‏{‏وَلاَ يَضُرُّكُمْ‏}‏ إن تركتموهم‏.‏ ‏{‏أُفّ لَّكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ قذراً لكم وسحقاً لكم وتعساً لكم؛ والاختلاف في قوله‏:‏ ‏{‏أُفّ‏}‏ مثل ما سيق‏.‏ ‏{‏وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏، يعني‏:‏ أُفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏‏؟‏ أن من ليس له ذهن ولا قوة ولا منفعة ولا مضرة أن لا تعبدوه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالُواْ‏}‏، يعني‏:‏ قال ملكهم‏:‏ ‏{‏حَرّقُوهُ وانصروا ءالِهَتَكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ انتقموا لآلهتكم، ‏{‏إِن كُنتُمْ فاعلين‏}‏ به شيئاً، فافعلوا فأمر النمرود أهل القرى أن يجمعوا له حطباً أياماً كثيرة، وأمر بأن يبنى بنياناً، فبنى حائطاً مستديراً وجمعوا الحطب ما شاء الله، ثم أضرموا فيه النار، فارتفعت النار حتى بلغت السماء في أعين الناظرين؛ وكانت الطير تمر بها فيصيبها حر النار، فلا تستطيع أن تجوز فيه فتقع ميتة‏.‏ فلما أرادوا أن يلقوه فيها، لم يستطيعوا لشدة حرها، ولم يقدر أحد أن يدنو منها، فبطل تدبيرهم وكادوا أن يتركوه‏.‏

حتى جاء إبليس عدو الله لعنه الله فدلهم على المنجنيق؛ وهو أول منجنيق صُنِعَ وجاؤوا بإبراهيم، فأوثقوا يديه وجعلوه في المنجنيق‏.‏ وروي في الخبر‏:‏ أن السموات والأرض والجبال بكوا عليه، وبكت عليه ملائكة السموات، وقالوا‏:‏ ربنا عبدك إبراهيم يحرق فيك‏.‏ فقال لهم‏:‏ إن استغاث بكم فأغيثوه‏.‏ فلما رمي في المنجنيق، قال‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل‏.‏ فرمي به بالمنجنيق في الهواء، فجعل يهوي نحو النار‏.‏ فقال جبريل‏:‏ يا رب، عبدك إبراهيم يحرق فيك، قال الله تعالى‏:‏ إن استغاث بك فأَغِثْهُ‏.‏ فأتاه جبريل وهو يهوي نحو النار، فقال‏:‏ أتطلب النجاة‏؟‏ فقال‏:‏ أما منك فلا‏.‏

قال‏:‏ أفلا تسأل الله أن ينجيك منها‏؟‏ فقال إبراهيم‏:‏ حسبي من سؤالي علمه بحالي‏.‏ فلما أخلص قلبه لله تعالى، فعند ذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْنَا ياذا *** نَّارٍ *** كُونِى بَرْداً وسلاما على إبراهيم‏}‏، يعني‏:‏ سلميه من حرِّك وبردك‏.‏

قال عكرمة‏:‏ بردت نار الدنيا كلها يومئذ، فلم ينتفع بها أحد من أهلها؛ وقال كعب‏:‏ ما أحرقت النار من إبراهيم غير وثاقه؛ وقال قتادة‏:‏ إن الخطاف كانت تطفئ النار بأجنحتها، وكانت الوزغة تنفخها؛ وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «اقْتُلُوا الوَزَغَةَ، فَإنَّهَا كَانَتْ تَنْفُخُ عَلَى إبْرَاهِيمَ النَّارَ» وكانت تقتلهن؛ وقال علي بن أبي طالب في قوله‏:‏ ‏{‏بَرْداً وسلاما‏}‏ لو لم يقل وسلاماً، لأهلكه البرد؛ وكذلك قال ابن عباس‏:‏ فضمه جبريل بجناحه ووضعه على الأرض، وضرب جناحه على الأرض، فأظهر الماء واخضرت الأرض‏.‏ فلما كان في اليوم الثالث، خرج النمرود مع جيشه وأَشْرَفَ على موضع مرتفع لينظر إلى النار، فرأى في وسط ذلك الموضع ماء وخضرة، ورأى هناك شخصين والنار حواليهما، فقال‏:‏ إنا قد رمينا إنساناً واحداً، فما لي أَرى فيها شخصين‏؟‏ فرجع متحيراً‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً‏}‏، يعني‏:‏ حرقاً، ‏{‏فجعلناهم الاخسرين‏}‏؛ يعني‏:‏ الأذلين الأسفلين، ‏{‏ونجيناه وَلُوطاً إِلَى الارض التى بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين‏}‏؛ يعني‏:‏ إلى الأرض المقدسة، فخرج إبراهيم من ذلك الموضع وقال للوط‏:‏ إني أريد أن أهاجر، فصدقه واتبعه، فخرجا إلى بيت المقدس، ويقال إلى الشام ‏{‏التى بَارَكْنَا فِيهَا‏}‏ بالماء والثمار للناس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 79‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ‏(‏72‏)‏ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ‏(‏73‏)‏ وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ‏(‏74‏)‏ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏76‏)‏ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏77‏)‏ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ‏(‏78‏)‏ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق‏}‏، يعني‏:‏ الولد‏.‏ ‏{‏وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً‏}‏، يعني‏:‏ زيادة؛ وذلك أنه سأل الله تعالى الولد، فأعطاه الله تعالى الولد وهو إسحاق عليه السلام وولد الولد فضله على مسألته وهو يعقوب عليه السلام ويقال‏:‏ نافلة أي غنيمة‏.‏ ‏{‏وَكُلاًّ جَعَلْنَا صالحين‏}‏، يعني‏:‏ أكرمناهم بالإسلام؛ وقال الكلبي‏:‏ كان لوط ابن أخي إبراهيم، فكان لوط بن هازر بن آزر وهو عم لوط؛ وقال بعضهم‏:‏ كان ابن عمه، وكانت سارة أخت لوط‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وجعلناهم أَئِمَّةً‏}‏، يعني‏:‏ قادة في الخير؛ ويقال‏:‏ أكرمناهم بالأمانة والنبوة‏.‏ ‏{‏يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا‏}‏، يعني‏:‏ يدعون الخلق ‏{‏بِأَمْرِنَا‏}‏ إلى أمرنا وإلى ديننا‏.‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات‏}‏، يعني‏:‏ أمرناهم بالأعمال الصالحة، ويقال‏:‏ بالدعاء إلى الله تعالى، أي قول لا إله إلا الله‏.‏ ‏{‏لَّيْسَ البر‏}‏، يعني‏:‏ تمام الصلاة، ‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً‏}‏؛ يعني‏:‏ الزكاة المفروضة وصدقة التطوع‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ لَنَا عابدين‏}‏، يعني‏:‏ مطيعين‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلُوطاً‏}‏، يعني‏:‏ واذكر لوطاً إذ ‏{‏اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا‏}‏، يعني‏:‏ النبوة والفهم؛ ويقال‏:‏ ‏{‏لُوطاً‏}‏، يعني‏:‏ وأوحينا إليهم وآتينا لوطاً حكماً وعلماً، يعني‏:‏ النبوة والفهم‏.‏ ‏{‏ونجيناه مِنَ القرية‏}‏، يعني‏:‏ مدينة سدوما ‏{‏التى كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث‏}‏، يعني‏:‏ اللواطة‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فاسقين‏}‏، يعني‏:‏ عاصين‏.‏ ‏{‏وَأَدْخِلْنَا فِي *** رَّحْمَتِنَا‏}‏، يعني‏:‏ أكرمنا لوطاً في الدنيا بطاعتنا وفي الآخرة بالجنة‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ مِنَ الصالحين‏}‏، يعني‏:‏ من المرسلين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَنُوحاً‏}‏، يعني‏:‏ واذكر نوحاً ‏{‏إِذْ نادى مِن قَبْلُ‏}‏، يعني‏:‏ دعا على قومه من قبل إبراهيم وإسحاق، ‏{‏فاستجبنا لَهُ فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم‏}‏؛ يعني‏:‏ الغرق وتكذيب قومه‏.‏ ‏{‏ونصرناه مِنَ القوم‏}‏، يعني‏:‏ على القوم ‏{‏الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏، يعني‏:‏ كذبوا نوحاً بما أنذرهم من الغرق، ويقال‏:‏ ‏{‏ونصرناه مِنَ القوم‏}‏، أي نجيناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء‏}‏، أي كافرين، ‏{‏فأغرقناهم أَجْمَعِينَ‏}‏؛ يعني‏:‏ الصغير والكبير فلم يبق منهم أحد إلا هلك بالطوفان، قال عز وجل ‏{‏وَدَاوُودَ وسليمان‏}‏، يعني‏:‏ واذكر داود وسليمان، ‏{‏إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين‏}‏؛ وذلك أن غنماً لقوم وقعت في زرع رجل، فأفسدته‏.‏ قال ابن عباس في رواية أبي صالح‏:‏ إن غنم قوم وقعت في كرم قوم ليلاً حين خرج عناقيده، فأفسدته؛ فاختصموا إلى داود بن أيشا عليه السلام فقوَّم داود الكرم والغنم، فكانت القيمتان سواء، يعني‏:‏ قيمة الغنم وقيمة ما أفسدت من الكرم؛ فدفع الغنم إلى صاحب الكرم‏.‏ فخرجوا من عنده، فمروا بسليمان عليه السلام فقال‏:‏ بمَ قضى بينكم الملك‏؟‏ فأخبروه فقال‏:‏ نِعْمَ ما قضى به، وغير هذا أرفق للفريقين جميعاً‏.‏

فرجع أصحاب الكرم والغنم إلى داود، فأخبروه بما قال سليمان؛ فأرسل داود إلى سليمان فقال‏:‏ كيف رأيت قضائي بين هؤلاء‏؟‏ فإني لم أقض بالوحي، إنما قضيت بالرأي‏.‏ فقال‏:‏ نِعْمَ ما قضيت‏.‏ فقال‏:‏ عزمت عليك أي أنشدك بحق النبوة وبحق الوالد على ولده إلا أخبرتني‏.‏ فقال سليمان‏:‏ غير هذا كان أرفق بالفريقين‏.‏ فقال‏:‏ وما هو‏؟‏ قال سليمان‏:‏ يأخذ أهل الكرم الغنم، ينتفعون بألبانها وسمنها وصوفها ونسلها؛ ويعمل أهل الغنم لأهل الكرم في كرمهم، حتى إذا عاد الكرم كما كان، ردوه‏.‏ فقال داود‏:‏ نِعْمَ ما قضيت به‏.‏ فقضى داود بينهم بذلك‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ كان ذلك القضاء نافذاً فلم ينقض ذلك‏.‏ وكان سليمان في ذلك اليوم ابن إحدى عشرة سنة فذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم‏}‏ يعني‏:‏ دخلت فيه غنم القوم، ويقال‏:‏ نفشت أي دخلت فيه بالليل من غير حافظ لها؛ وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن الزهري رحمهم الله قال‏:‏ النفش لا يكون إلا ليلاً، والهمل بالنهار؛ وروى قتادة، عن الشعبي أن شاة وقعت في غزل الحواك، فاختصموا إلى شريح رحمه الله فقال شريح‏:‏ انظروا أوقعت ليلاً أو نهاراً‏.‏ فإن كان بالليل يضمن، وإن كان بالنهار لا يضمن، ثم قرأ شريح‏:‏ ‏{‏إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم‏}‏ وقال‏:‏ النفش بالليل والهمل بالنهار، وكلاهما الرعي بلا راع‏.‏

وروى سعيد بن المسيب أن ناقة البراء بن عازب دخلت حَائِطاً لقوم فأفسدته، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الأموال على أهلها بالنهار، وعلى أهل الماشية ما أصابت الماشية بالليل‏.‏ وبهذا الخبر أخذ أهل المدينة، وقال أهل العراق‏:‏ لا يضمن ليلاً كان أو نهاراً، إلا أن يتعمد صاحبها فيرسلها فيه، وذهبوا إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «جُرْحُ العَجْماءِ جُبَارٌ»‏.‏ ‏{‏وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين‏}‏، يعني‏:‏ عالمين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ففهمناها سليمان‏}‏، يعني‏:‏ ألهمناها سليمان‏.‏ ‏{‏وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً‏}‏، يعني‏:‏ النبوة والفهم بالحكم‏.‏ وروي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال‏:‏ لولا هذه الآية، لم يجرؤ أحد منا أن يفتي في الحوادث‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرْنَا مَعَ * دَاوُودُ ****الجبال يُسَبّحْنَ والطير‏}‏، يعني‏:‏ كلما سبح داود، يسبح معه الجبال والطير، يعني‏:‏ سخرنا الجبال والطير يسبحن معه إذا سبح؛ وقال‏:‏ كان داود يمر بالجبال صبحاً، وهي تجاوبه وكذلك الطير؛ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏يُسَبّحْنَ‏}‏ أي يصلين معه إذا صلى، يعني‏:‏ كل ما سبح داود تسبح معه الجبال والطير، يعني‏:‏ سخرنا الطير والجبال يسبحن معه‏.‏ ‏{‏وَكُنَّا فاعلين‏}‏، يعني‏:‏ نحن فعلنا ذلك بهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 83‏]‏

‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ‏(‏80‏)‏ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ‏(‏81‏)‏ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ‏(‏82‏)‏ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ دروع الحديد؛ وذلك أن داود خرج يوماً متنكراً، ليسأل عن سيرته في مملكته، فقال جبريل‏:‏ نِعْمَ الرجل هو، لولا أن فيه خصلة واحدة‏.‏ قال‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ بلغني أنه يأكل من بيت المال، وليس شيء أفضل من أن يأكل الرجل من كدّ يده‏.‏ فرجع داود عليه السلام وسأل الله عز وجل أن يجعل رزقه من كدّ يديه، فألان له الحديد، وكان يتخذ منها الدروع ويبيعها ويأكل من ذلك؛ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ‏}‏ يعني‏:‏ ألهمناه، ويقال‏:‏ ‏{‏علمناه‏}‏ بالوحي صنعة اللبوس لكم‏.‏ ‏{‏لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ يمنعكم قتال عدوكم‏.‏ قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص بالتاء ‏{‏لِتُحْصِنَكُمْ‏}‏، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ‏{‏***لنحصنكم‏}‏ بالنون بدليل قوله وعلمناه وقرأ الباقون بالياء للفظ التذكير يعني‏:‏ ليحصنكم الله عز وجل، ويقال‏:‏ يعني‏:‏ اللبوس، ومن قرأ بالتاء فهو كناية عن الصنعة، واختار أبو عبيد بالتاء ‏{‏لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ‏}‏، لأن اللبوس أقرب إليه ثم قال‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنتُمْ شاكرون‏}‏‏.‏ اللفظ لفظ الاستفهام، يعني‏:‏ اشكروا وارث هذه النعم ووحدوه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولسليمان الريح‏}‏؛ قرأ عبد الرحمن ‏{‏الريح‏}‏ بضم الحاء على معنى الابتداء، وقراءة العامة ‏{‏الريح‏}‏ بالنصب، ومعناه وسخرنا لسليمان الريح ‏{‏عَاصِفَةً‏}‏، يعني‏:‏ قاصفة شديدة، وقال في موضع آخر ‏{‏فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 36‏]‏ يعني‏:‏ لينة، فإنها كانت تشتد إذا أراد وتلين إذا أراد ‏{‏تَجْرِى بِأَمْرِهِ‏}‏، يعني‏:‏ تسير بأمر الله عز وجل، ويقال‏:‏ بأمر سليمان‏.‏ ‏{‏إِلَى الارض التى بَارَكْنَا فِيهَا‏}‏ بالماء والشجر ‏{‏وَكُنَّا بِكُلّ شَئ عالمين‏}‏، يعني‏:‏ من أمر سليمان وغيره‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ لَهُ‏}‏، يعني‏:‏ سخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في البحر، ‏{‏وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك‏}‏ من البنيان وغيره، ‏{‏وَكُنَّا لَهُمْ حافظين‏}‏ من أن يهيجوا أحداً في زمانه، ويقال‏:‏ يحفظهم أن لا يفسدوا ما عملوا، ويقال‏:‏ ‏{‏وَكُنَّا لَهُمْ حافظين‏}‏ ليطيعوا سليمان ولا يعصوه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ‏}‏، يعني‏:‏ اذكر أيوب عليه السلام روي في الخبر أن أيوب كان بمنزلة الملك، وهو أيوب بن مرضي النبي عليه السلام وكانت له أموال من صنوف مختلفة، وكانت له ضياع كثيرة، وكان له ثلاثمائة زوج ثيران، وغلمان يعملون له في ضياعه، وأموال السوائم من الغنم والإبل والبقر، وكان متعبداً ناسكاً منفقاً متصدقاً، فحسده إبليس عدو الله وقال‏:‏ إن هذا يذهب بالدنيا والآخرة‏.‏ وأراد أن يفسد عليه إحدى الدارين أو كلتيهما، فسأل الله تعالى وقال‏:‏ إن عبدك أيوب يعبدك، لأنك أعطيته السعة في الدنيا، ولولا ذلك لم يعبدك قال الله تعالى‏:‏ إني أعلم منه أنه يعبدني ويشكرني، وإن لم يكن له سعة في الدنيا‏.‏

فقال‏:‏ يا رب سلطني عليه‏.‏ فسلطه على كل شيء منه إلا على روحه‏.‏

وجاء إبليس إلى غنمه كهيئة النار، وضرب عليها فأهلك جميع غنمه، فجاءت رعاته فأخبروه بالقصة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال‏:‏ هو الذي أعطى وهو الذي أخذ، وهو أحق به‏.‏ ويقال‏:‏ إنه أحرق غنمه ورعاته، فجاء إبليس على هيئة راع من رعاته فأخبره بذلك، فقال له أيوب‏:‏ لو كان فيك خير لهلكت مع أصحابك‏.‏ ثم جاء إلى إبله وبقره ففعل مثل ذلك، ثم جاء إلى زرعه كهيئة النار فأفسد جميع زرعه، فأخبر بذلك، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه، وقال‏:‏ هو الذي أعطى وهو الذي أخذ، وهو أحق به‏.‏

وكان له سبعة بنين وثلاث بنات؛ ويقال‏:‏ سبعة بنين وسبع بنات في بيت، فجاء إبليس عليه اللعنة فهدم البيت عليهم فماتوا كلهم، فذكر ذلك لأيوب فحمد الله تعالى، وأثنى عليه على ذلك، ولم يجزع وقال‏:‏ هو الذي أعطى ثم أخذ‏.‏ ثم جاء إلى أيوب وهو في الصلاة، فلما سجد نفخ في أنفه وفمه نفخة، فانتفخ أيوب عليه السلام وخرجت به قروح، وجعل تسيل منها الصديد، وتفرق عنه أقرباؤه وأصدقاؤه، ولم يبق معه إلا امرأته‏.‏

وقال ابن عباس في رواية أبي صالح‏:‏ كان اسم امرأته ماحين بنت ميشا بن يوسف بن يعقوب، ويقال‏:‏ كان اسمها رحمة‏.‏ فتأذى به جيرانه، وقالوا لامرأته‏:‏ احمليه من هاهنا، فإنا نتأذى به‏.‏ فحملته حتى أخرجته إلى كناسة قوم، ووضعته عليها، وجعلت تدخل على الناس وتخدمهم، وتأخذ شيئاً وتنفقه عليه‏.‏ فكان ذلك البلاء ما شاء الله، فجاء إبليس في صورة طبيب، وقال للمرأة‏:‏ إن أردت أن يبرأ من علته، فمريه يشرب الخمر، ويتكلم بكلمة الكفر‏.‏ فأخبرته المرأة بذلك، فقال لها‏:‏ ذلك إبليس الذي أمرك بهذا، فألحَّت عليه، فغضب وقال‏:‏ والله لئن برئت، لأضربنك مائة سوط‏.‏ فقالت‏:‏ متى تبرأ‏؟‏ فقال عند ذلك‏:‏ ربِّ ‏{‏أَنّى مَسَّنِىَ الضر‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ إنه اشتهى شيئاً يتخذ بالسمن، فدخلت امرأته على امرأة غني من الأغنياء وسألتها ذلك، فأبت عليها؛ ثم نظرت إلى ذوائبها، فرأت ذوائبها مثل الحبل، فقالت‏:‏ لئن دفعت إليّ ذوائبك، دفعت إليك ما تطلبين مني‏.‏ فدفعت بالمقراض وقطعت ذوائبها ودفعتها إليها، وأخذت منها ما سألت، وجاءت به إلى أيوب فقال لها‏:‏ من أين لك هذا‏؟‏ فأخبرته بالقصة، فبكى أيوب عند ذلك، وقال‏:‏ رَبِّ ‏{‏أَنّى مَسَّنِىَ الضر‏}‏‏.‏

قال بعضهم‏:‏ مكث أيوب في بلائه سبع سنين، وقال بعضهم‏:‏ عشر سنين، وروى بعضهم، عن أنس بن مالك‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«إنَّ أيُّوبَ نَبِيَّ الله لَبِثَ فِي بَلاَئِهِ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ القَرِيبُ وَالبَعِيدُ، إلاَّ رَجُلَيْنِ مِنْ إخْوَانِهِ كَانا يَعُودَانِهِ وَيَغْدُوانِ إلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ‏:‏ وَالله لَقَدْ أذْنَبَ أيُّوبُ ذَنْباً مَا أذْنَبَهُ أحَدٌ مِنَ العَالَمِينَ‏.‏ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ‏:‏ وما ذلك‏؟‏ قالَ لَهُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ الله تَعَالَى، فَيَكْشِف ما بِهِ‏.‏ ثُمَّ رَاحَا إلَيْهِ فَلَمْ يَصْبِرَا، حَتَّى ذَكَرا ذلكَ لَهُ، فَعِنْدَ ذلكَ قالَ‏:‏ ربِّ ‏{‏مَسَّنِىَ الضر‏}‏»‏.‏ قال‏:‏ فلما كان ذات يوم، خرجت امرأته، فأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه السلام في مكانه أن ‏{‏اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 42‏]‏ فشرب واغتسل، فأذهب الله عز وجل ما به من البلاء، فقال أيوب‏:‏ كان الركض برجلي أشد علي من البلاء الذي كنت فيه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لما قال الله تعالى له‏:‏ ‏{‏اركض بِرِجْلِكَ‏}‏ ففعل، فانفجرت عين اغتسل منها فصح جسده‏.‏ ثم قيل له‏:‏ اركض برجلك ففعل، فخرجت عين فشرب منها، فالتأم ما في جوفه‏.‏ فلما رجعت إليه المرأة، لم تعرفه، فقالت له‏:‏ بارك الله فيك، هل رأيت نبي الله المبتلى‏؟‏ فوالله ما رأيت أحداً أشبه به منك إذ كان صحيحاً‏.‏ قال‏:‏ فإني أيوب‏.‏ قال‏:‏ وكان له آنذاك أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين‏:‏ إحداهما على أندر القمح فأفرغت الذهب حتى فاض، وأفرغت الأُخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض؛ ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ نادى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضر‏}‏، أصابني البلاء والشدة ‏{‏وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين‏}‏ فعرض ولم يفصل بالدعاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 86‏]‏

‏{‏فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ‏(‏84‏)‏ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ‏(‏85‏)‏ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ‏}‏، يعني‏:‏ رفعنا ما به من شدة ‏{‏فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا‏}‏؛ قال مقاتل‏:‏ ولدت امرأة أيوب منه سبعة بنين وثلاث بنات قبل البلاء، فأحياهم الله تعالى؛ ثم ولدت بعد كشف البلاء سبعة بنين وثلاث بنات، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ‏}‏‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ولدت سبعة بنين وسبع بنات، فنشروا له، وولدت امرأته مثلهم سبعة بنين وسبع بنات؛ ويقال‏:‏ آتاه الله عز وجل أهله في الدنيا، ومثلهم معهم في الآخرة‏.‏ وروى وكيع، عن ابن سفيان، عن الضحاك‏:‏ أن ابن مسعود بلغه أن مروان بن الحكم قال‏:‏ ‏{‏فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا‏}‏ أي أهلاً غير أهله‏.‏ فقال ابن مسعود‏:‏ لا بل أهله بأعيانهم ومثلهم معهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا‏}‏، يعني‏:‏ نعمة منا‏.‏ ‏{‏وذكرى للعابدين‏}‏؛ يعني‏:‏ عظة للمطيعين؛ وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليعتبروا به، لأن أيوب عليه السلام لم يفتر عن عبادة ربه عز وجل في بلائه‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإسماعيل وَإِدْرِيسَ‏}‏، يعني‏:‏ واذكر إسماعيل، وهو إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وإدريس وهو جد أبي نوح‏.‏ ‏{‏وَذَا الكفل‏}‏‏.‏ قال بعضهم‏:‏ كان ذو الكفل نبياً؛ وقال مجاهد‏:‏ ذو الكفل لم يكن نبياً، وكان رجلاً صالحاً، تكفل لبني قومه أن يكفيه أمر قومه، ويقضي بينهم بالعدل؛ ولذلك سمي ذا الكفل؛ ويقال‏:‏ إنما ذكره مع الأنبياء عليهم السلام لأنه عمل عمل الأنبياء؛ وقال قتادة‏:‏ كفل عن رجل صلاته، كان يصلي كل يوم ألف ركعة، فكفل عنه فكان يصلي بعد موته؛ فسمي ذا الكفل؛ ويقال‏:‏ إنه كفل مائة نبي، وأنجاهم من القتل، وضمهم إلى نفسه، فسمي ذا الكفل‏.‏ ‏{‏كُلٌّ مّنَ الصابرين‏}‏، يعني‏:‏ صبروا على طاعة الله عز وجل وعلى ما أصابهم من الشدة في الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأدخلناهم فِى رَحْمَتِنَا‏}‏، يعني‏:‏ أكرمناهم بالنبوة، ويقال‏:‏ أدْخلناهم في الجنةِ ‏{‏إِنَّهُمْ مّنَ الصالحين‏}‏، يعني‏:‏ المطيعين لله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏

‏{‏وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏87‏)‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏وَذَا النُّونِ‏}‏، يعني‏:‏ واذكر ذا النون، يعني‏:‏ ذا السمكة؛ وهو يونس بن متى عليه السلام، يعني‏:‏ واذكر ذا النون، يعني‏:‏ ذا السمكة؛ وهو يونس بن متى عليه السلام ‏{‏إِذ ذَّهَبَ مغاضبا‏}‏، يعني‏:‏ مصارعاً من قومه؛ ويقال‏:‏ كان ضيق الصدر سريع الغضب؛ وذلك أنه لما دعا قومه إلى الله تعالى، كذبوه فأخبرهم بأن العذاب نازل بهم، فأتاهم العذاب؛ فأخلصوا لله تعالى بالدعاء، فصرف عنهم‏.‏ وكان يونس اعتزلهم ينتظر هلاكهم، فسأل بعض من مر عليه من أهل تلك المدينة، فلما علم أنهم لم يهلكوا، أنف أن يرجع إليهم مخافة أن ينسب إلى الكذب وَيُعَيَّرَ به؛ و‏{‏ذَّهَبَ مغاضبا‏}‏، يعني‏:‏ أنفاً‏.‏ قال القتبي‏:‏ غضب وأنف بمعنى واحد لقربهما‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنما غضب على الملك؛ وذلك أن ملكاً من الملوك، يقال له ابن تغلب، غزا بني إسرائيل ونزل أيام عافيتهم، أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل، يسمَّى شعياء أن ائت حَزْقِيا الملك، ومره ليبعث نبياً قوياً أميناً‏.‏ وكان في ملكه خمسة من الأنبياء، فجاء شعياء إلى حزقيا وأخبره بذلك، فدعا الملك يونس بن متى، وأمره بأن يخرج، فأبى أن يخرج وقال‏:‏ إن في بني إسرائيل أنبياء أقوياء غيري، فعزم عليه الملك، فخرج وهو كاره، فغضب على الملك‏.‏

فوجد قوماً قد شحنوا سفينتهم، فقال لهم‏:‏ أتحملونني معكم‏؟‏ فعرفوه فحملوه‏.‏ فلما شحنت السفينة بهم وأسرعت في البحر، انكفأت وغرقت بهم، فقال ملاحوها‏:‏ يا هؤلاء، إن فيكم رجلاً عاصياً، وإن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح، إلا وفيكم رجل عاصٍ، فاقترعوا فخرج بينهم يونس عليه السلام فقال التجار‏:‏ نحن أولى بالمعصية من نبي الله‏.‏ ثم أعادوا الثانية والثالثة، فخرج سهم يونس، فقال‏:‏ يا هؤلاء، أنا والله العاصي‏.‏ قال‏:‏ فتلفف في كسائه وقام على رأس السفينة، فرمى بنفسه فابتلعته السمكة؛ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذ ذَّهَبَ مغاضبا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ لن يقدر عليه العقوبة، ويقال‏:‏ إن ذنبه لم يبلغ الذي نقدر عليه العقوبة؛ ويقال‏:‏ ظن أنا لن نضيق عليه الحبس، كقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربى أَهَانَنِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 16‏]‏ أي ضيق‏.‏ وقرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ‏}‏ بالتشديد، فهو من التقدير، وقراءة العامة بالتخفيف‏.‏ ‏{‏فنادى فِى الظلمات‏}‏، يعني‏:‏ في ظلمات ثلاث‏:‏ ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت‏:‏ ‏{‏أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ‏}‏، أي ليس أحد له سجن كسجنك‏.‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ إني تبت إليك‏.‏ ‏{‏إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين‏}‏ لنفسي‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستجبنا لَهُ ونجيناه مِنَ الغم‏}‏، يعني‏:‏ غم الماء في بطن الحوت، ويقال‏:‏ من غم الذنب وقد بقي في بطن الحوت أربعين يوماً، ويقال‏:‏ أقل من ذلك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وكذلك نُنجِى المؤمنين‏}‏‏.‏ قرأ عاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر في إحدى الروايتين ‏{‏***نُجِّي‏}‏ بنون واحدة وتشديد الجيم؛ وقال الزجاج‏:‏ هو لحن، لأن فعل ما لم يسم فاعله، لا يكون بغير فاعل؛ وإنما كتب في المصحف بنون واحدة، لأن الثانية تخفى مع الجيم؛ وقال أبو عبيدة‏:‏ والذي عندنا أنه ليس بلحن، وله مخرجان في العربية‏:‏ أحدهما أنه يريد ‏{‏ثُمَّ نُنَجّى‏}‏ مشددة كقوله‏:‏ ونجيناه من الغم، ثم يدغم النون الثانية في الجيم؛ والآخر معناه نجِّي نجاة المؤمنين‏.‏ قال‏:‏ هذه القراءة أحب إلي، لأن المصاحف كلها كتبت بنون واحدة، وهكذا رأيت في مصحف الإمام عثمان رضي الله عنه وقرأ الباقون ‏{‏نُنجِى المؤمنين‏}‏ بنونين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 94‏]‏

‏{‏وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ‏(‏89‏)‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ‏(‏90‏)‏ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏91‏)‏ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ‏(‏92‏)‏ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ‏(‏93‏)‏ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَزَكَرِيَّا‏}‏ يعني‏:‏ واذكروا زكريا ‏{‏إِذْ نادى رَبَّهُ‏}‏، يعني‏:‏ إذ دعا ربه‏:‏ ‏{‏رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً‏}‏، يعني‏:‏ وحيداً لا وارث لي‏.‏ ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين‏}‏، يعني‏:‏ أفضل الوارثين‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ‏}‏، يعني‏:‏ رحم امرأته وكانت عقيماً لم تلد قط، سيئة الخلق، فأصلحها الله تعالى‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الخيرات‏}‏، يعني‏:‏ يبادرون في الطاعات، وهو زكريا وامرأته ويحيى عليهم السلام ويقال‏:‏ الأنبياء الذين سبق ذكرهم‏.‏ ‏{‏وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً‏}‏، يعني‏:‏ رغبة فيما عند الله من الثواب والجنة، ورهباً أي فرقاً من عذاب الله تعالى‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ لَنَا خاشعين‏}‏، يعني‏:‏ مطيعين، ويقال‏:‏ متواضعين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والتى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا‏}‏، يعني‏:‏ واذكر مريم التي حفظت نفسها من الفواحش‏.‏ ‏{‏فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا‏}‏، يعني‏:‏ نفخ جبريل في نفسها بأمرنا ‏{‏وجعلناها وابنها ءايَةً‏}‏ يعني عبرة ‏{‏للعالمين‏}‏ أي‏:‏ لجميع الخلق ويقال آية، ولم يقل آيتين لأن شأنهما واحد الآية فيهما بمعنى واحد بغير أب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏، يعني‏:‏ دينكم دين الإسلام ديناً واحداً، قرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ بالضم ومعناه إن هذه أمتكم وقد تم الكلام، ثم يقول‏:‏ ‏{‏أُمَّةٍ‏}‏، يعني‏:‏ هذه أمة واحدة؛ وقرأ العامة بالنصب على معنى التفسير ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون‏}‏، يعني‏:‏ فوحدوني‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ عرفوا فيما بينهم وهم اليهود والنصارى‏.‏ ‏{‏كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون‏}‏ في الآخرة، فهذا تهديد للذين تفرقوا في الدين‏.‏ ثم بيَّن ثواب الذين ثبتوا على الإسلام، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات‏}‏، يعني‏:‏ الطاعات ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏، يعني‏:‏ مصدق بتوحيد الله عز وجل، ‏{‏فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ‏}‏، يعني‏:‏ لا يُجحد ولا يُنسى ثواب عمله‏.‏ والكفران مصدر مثل الشكران والغفران‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا لَهُ كاتبون‏}‏، يعني‏:‏ حافظين مجازين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 99‏]‏

‏{‏وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏95‏)‏ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ‏(‏96‏)‏ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏97‏)‏ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ‏(‏98‏)‏ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ‏}‏، يعني‏:‏ على قرية فيما مضى ‏{‏أهلكناها‏}‏ بالعذاب في الدنيا، ‏{‏أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ إلى الدنيا، قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏وَحَرَّمَ‏}‏، الباقون ‏{‏وَحَرَامٌ‏}‏ بنصب الحاء والألف‏.‏ وَحُرْمٌ وَحَرَامٌ بمعنى واحد، كقوله‏:‏ حلّ وحلال، وروي عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقرأ ‏{‏وَحَرَّمَ‏}‏ وقال‏:‏ واجب عليهم أن لا يرجع منهم راجع، ويقال معناه وحرام على أهل قرية أهلكناها أن يتقبل منهم عمل، لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون؛ ويقال‏:‏ ‏{‏لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ لا‏:‏ زيادة ومعناه حرام عليهم أن يرجعوا‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ‏}‏، قرأ ابن عامر ‏{‏فُتِحَتْ‏}‏ بالتشديد على معنى المبالغة والتكثير؛ وقرأ الباقون بالتخفيف؛ وقرأ عاصم ‏{‏يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ‏}‏ بالهمز والباقون بغير همز‏.‏ ‏{‏وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ‏}‏، قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ من كل مكان يخرجون، من كل جبل أو أرض أو واد، وخروجهم عند قيام الساعة؛ وقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه‏:‏ لا يموت واحد منهم إلا ترك من صلبه ألف ذرية فصاعداً‏.‏ وروى قتادة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أنه قال‏:‏ الإنس عشرة أجزاء منهم يأجوج ومأجوج تسعة أجزاء، وجزء واحد سائر الإنس‏.‏

وروى سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزبعرى، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ يَخْرُجُ يَأْجُوجُ ومأجوج بعد الدجال، يموجون في الأرض فيفسدون فيها، ثم قرأ ‏{‏وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ‏}‏، أي يخرجون فيبعث الله تعالى عليهم دابة مثل هذا النغف، فتلج في أسماعهم ومناخرهم فيموتون، فتنتن الأرض؛ فيرسل الله تعالى ماء فيطهر منهم، فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ‏}‏، يعني‏:‏ أرسلت كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءَامَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مِّنَ السمآء والارض ولكن كَذَّبُواْ فأخذناهم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 96‏]‏، يعني‏:‏ أرسلنا ‏{‏وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ‏}‏، أي من كل أكمة ونشرة من الأرض يخرجون، وقال بعضهم‏:‏ يكون خروجهم قبل الدجال‏.‏ والأصح ما روي عن عبد الله بن مسعود‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واقترب الوعد الحق‏}‏، يعني‏:‏ قيام الساعة‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هِىَ شاخصة‏}‏، أي فاتحة ‏{‏أبصار الذين كَفَرُواْ ياويلنا‏}‏، يعني‏:‏ يقولون‏:‏ يَا وَيْلَنَا ‏{‏ياويلنا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ‏}‏؛ يعني‏:‏ في جهل ‏{‏مّنْ هذا‏}‏ اليوم‏.‏ ثم ذكروا أن المرسلين كانوا أخبروهم، فقالوا‏:‏ ‏{‏بَلْ كُنَّا ظالمين‏}‏، يعني‏:‏ قد أخبرونا فكذبناهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏؛ وروي عن علي بن أبي طالب أنه كان يقرأ حطب جهنم، وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ حضب جهنم، بالضاد، وقراءة العامة ‏{‏حَصَبُ‏}‏ بالصاد، يعني‏:‏ رمياً في جهنم‏.‏

وكل ما يرمى في جهنم فهو حصب، ويقال‏:‏ حصب هو الحطب بلسان الزنجية‏.‏ ومن قرأ‏:‏ حطب، أي كل ما يوقد به جهنم، ومن قرأ حضب، بالضاد معناه ما يهيج به النار‏.‏ ‏{‏أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ‏}‏، أي داخلون‏.‏

وقال ابن عباس في رواية أبي صالح‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى قريشاً وهم في المسجد مجتمعون، وثلاثمائة وستون صنماً مصفوفة، وصنم كل قوم بحيالهم؛ فقال‏:‏ «‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ يعني‏:‏ من هذه الأصنام، فِي النَّارِ»‏.‏ ثم انصرف عنهم، فشق ذلك عليهم مشقة عظيمة شديدة‏.‏ وأتاهم عبد الله بن الزبعرى، وكان شاعراً، فقال‏:‏ ما لي أراكم بحال لم أركم عليها قبل‏؟‏ فقالوا‏:‏ إن محمداً يزعم أنا وما نعبد في النار‏.‏ فقال‏:‏ لو كنت هاهنا لخصمته‏.‏ فقالوا‏:‏ هل لك أن نرسل إليه‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏ فبعثوا إليه، فأتاهم، فقال له ابن الزبعرى‏:‏ أرأيت ما قلت لقومك آنفاً، أخاص لهم أم عام‏؟‏ فقال‏:‏ بل عام، كل من عبد من دون الله فهو وما يعبد في النار‏.‏ قال‏:‏ أرأيت عيسى ابن مريم عليه السلام هذه النصارى تعبده، فعيسى والنصارى في النار‏؟‏ وهذا عزير تعبده اليهود، فعزير واليهود في النار‏؟‏ وهذا حي يقال لهم بنو مليح يعبدون الملائكة، فالملائكة وهم في النار‏؟‏ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجبهم، فضج أصحابه وضحكوا فنزل‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً‏}‏، ونزل في عيسى وعزير والملائكة ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏‏.‏

يقال إن هذه القصة لا تصح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، وأنطقهم لساناً، وأحضرهم جواباً كما وصف نفسه‏:‏ «أنَا أفْصَحُ العَرَبِ» فلا يجوز أن يسكت على مثل هذا السؤال، ولم يكن السؤال لازماً؛ ويقال‏:‏ كان سكوته الاستخفاف، لأنه سئل سؤالاً محالاً، لأنه قال‏:‏ إنكم وما تعبدون من دون الله، ولم يقل ومن تعبدون‏.‏ وما لا يقع على النواطق، ومن تقع على النواطق؛ ويقال‏:‏ هذا القول يقال لهم يوم القيامة، لأنه قال‏:‏ ‏{‏قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالمين‏}‏‏.‏ يقال لهم عند ذلك‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏، فإن قيل‏:‏ ما الحكمة في إدخال الأصنام في النار‏؟‏ قيل‏:‏ زيادة عقوبة للكفار، لأن الأصنام أحجار، فيكون الحر فيها أشد؛ ويقال‏:‏ الفائدة في إدخال المعبود النار زيادة ذل وإصغار عليهم، حيث رأوا معبودهم في النار معهم من غير أن يكون للأصنام عقوبة، لأنه لا يجوز التعذيب بذنب غيرهم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ هَؤُلاء ءالِهَةً‏}‏، يعني‏:‏ الأصنام ‏{‏مَّا وَرَدُوهَا‏}‏، أي ما دخلوها ومنعوا أنفسهم من النار‏.‏ ‏{‏وَكُلٌّ فِيهَا خالدون‏}‏، يعني‏:‏ العابد والمعبود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 104‏]‏

‏{‏لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏100‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ‏(‏101‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ‏(‏102‏)‏ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏103‏)‏ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ‏}‏، يعني‏:‏ في النار صوتهم مثل نهيق الحمار‏.‏ ‏{‏وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏، يعني‏:‏ عيسى وعزيراً في الجنة لا يسمعون زفيرهم؛ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ أن أهل النار لا يسمعون في النار الصوت، وذلك حين يقال لهم‏:‏ ‏{‏اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ‏}‏، فصاروا صماً بكماً عمياً ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى‏}‏، يعني‏:‏ الذين وجبت لهم منا الجنة، يعني‏:‏ عيسى وعزيراً‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ‏}‏، يعني‏:‏ منجون من النار‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا‏}‏، يعني‏:‏ صوت جهنم ‏{‏وَهُمْ *** فِيمَا *** اشتهت أَنفُسُهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ لهم ما تمنت أنفسهم في الجنة‏.‏ ‏{‏خالدون‏}‏، يعني‏:‏ دائمين‏.‏ ‏{‏لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الاكبر‏}‏؛ قال ابن عباس رضي الله عنه يعني‏:‏ النفخة الأخيرة دليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور فَفَزِعَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الارض إِلاَّ مَن شَآءَ الله وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏، وقال الحسن‏:‏ حين يؤمر بالعبد إلى النار؛ وقال مقاتل‏:‏ إذا ذبح الموت بين الجنة والنار، فيأمن أهل الجنة من الموت ويفزع أهل النار، فيفزعون حين أيسوا من الموت؛ وقال الكلبي، وسعيد بن جبير، والضحاك‏:‏ إنه حين وضع الطبق على النار بعد ما أخرج منها من أخرج، فيفزعوا لذلك فزعاً لم يفزعوا لشيء قط؛ وذلك الفزع الأكبر‏.‏ وقال مقاتل، وابن شريح‏:‏ حين يذبح الموت على هيئة كبش أملح على الأعراف، والفريقان ينظرون فينادى‏:‏ يا أهل الجنة، خلود لا موت؛ ويا أهل النار، خلود لا موت‏.‏ وقال ذو النون المصري‏:‏ هو القطيعة والفراق؛ ويقال‏:‏ إنه الموت، لأن أول هول يراه الإنسان من أمر الآخرة هو الموت؛ ويقال‏:‏ الفزع الأكبر عند قوله‏:‏ ‏{‏وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 59‏]‏ ويقال‏:‏ هذا حين دعوا إلى الحساب؛ ويقال‏:‏ عند الصراط‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتتلقاهم الملئكة‏}‏، يعني‏:‏ يوم القيامة لأهل الجنة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يعني الملائكة الذين كتبوا أعمال بني آدم، حين خرجوا من قبورهم فيقولون للمؤمنين‏:‏ ‏{‏هذا يَوْمُكُمُ الذى كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ في الجنة؛ وقال الكلبي‏:‏ تتلقاهم الملائكة عند باب الجنة ويبشرونهم بذلك، ويقولون‏:‏ ‏{‏هذا يَوْمُكُمُ الذى كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ في الدنيا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَطْوِى السماء‏}‏، يعني‏:‏ واذكر يوم نطوي السماء، ‏{‏كَطَىّ السجل لِلْكُتُبِ‏}‏‏.‏ قال السدي‏:‏ السجل ملك موكل بالصحف؛ فإذا مات الإنسان، دفع كتابه إلى السجل فطواه؛ ويقال‏:‏ السجل الصحيفة، ويقال‏:‏ السجل الكاتب‏.‏

وروى أبو الجوزاء، عن ابن عباس قال‏:‏ السجل كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الله تعالى أنه يطوي السماء يوم القيامة، كما يطوي السجل الكتاب‏.‏ قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ‏{‏لِلْكُتُبِ‏}‏ بلفظ الجماعة؛ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏للكتاب‏}‏ بلفظ الواحد، وقرأ أبو حفص المدني ‏{‏فِى السماء‏}‏ بالتاء والضم على فعل ما لم يسم فاعله؛ وقراءة العامة ‏{‏نَطْوِى السماء‏}‏ بالنون؛ وقرأ بعضهم‏:‏ السجل بجزم الجيم والتخفيف، وقراءة العامة بالتشديد وبكسر الجيم‏.‏

ثم استأنف الكلام فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ‏}‏، يعني‏:‏ خلقهم في الدنيا يعيدهم في الآخرة؛ ويقال‏:‏ كما بدأناهم شقياً وسعيداً في الدنيا‏.‏ فكذلك يكونون في الآخرة؛ ويقال‏:‏ كما بدأنا أول خلق من نطفة في الدنيا، نعيده وأن تمطر السماء أربعين يوماً كمني الرجال فينبتون فيه‏.‏ ‏{‏وَعْداً عَلَيْنَا‏}‏، يعني‏:‏ وعدنا البعث صدقاً وحقاً لا خلاف فيه، كقوله ‏{‏تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 2‏]‏ ‏{‏وَعْداً‏}‏ صار نصباً للمصدر‏.‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا فاعلين‏}‏ بهم، أي باعثين بعد الموت‏.‏ وروي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «إنَّكُمْ تُحْشَرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ عُرَاةً غُرْلاً بُهْماً، ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ‏}‏»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 112‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ‏(‏105‏)‏ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ‏(‏106‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏107‏)‏ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏108‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ‏(‏109‏)‏ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ‏(‏110‏)‏ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏111‏)‏ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور‏}‏، يعني‏:‏ في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وكل كتاب زبور‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ الذكر‏}‏، يعني‏:‏ من بعد اللوح المحفوظ؛ ويقال‏:‏ الذكر التوراة، يعني‏:‏ كتبنا في الإنجيل والزبور والفرقان من بعد التوراة، أي بيَّنا في هذه الكتب ‏{‏إِنَّ الارض‏}‏، يعني‏:‏ أرض الجنة ‏{‏يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون‏}‏، يعني‏:‏ ينزلها عبادي المؤمنون، وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير ومقاتل رضي الله عنه ويقال‏:‏ إن الأرض المقدسة يرثها، أي ينزلها، بنو إسرائيل؛ ويقال‏:‏ يعني أرض الشام يرثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقال جميع الأرض تكون في آخر الزمان‏.‏ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سَيَبْلُغُ مُلْكُ أمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا»‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى هذا‏}‏، أي في هذا القرآن‏.‏ ‏{‏لبلاغا‏}‏ إلى الجنة ‏{‏لّقَوْمٍ عابدين‏}‏، أي موحدين؛ ويقال‏:‏ في هذا القرآن لبلاغاً بلغهم من الله عز وجل لقوم مطيعين‏.‏ وعن كعب أنه قال‏:‏ إنهم أهل الصلوات الخمس‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين‏}‏، يعني‏:‏ ما بعثناك يا محمد إلاَّ رحمة للعالمين، يعني‏:‏ نعمة للجن والإنس؛ ويقال‏:‏ ‏{‏للعالمين‏}‏ أي لجميع الخلق، لأن الناس كانوا ثلاثة أصناف‏:‏ مؤمن وكافر ومنافق‏.‏ وكان رحمة للمؤمنين، حيث هداهم طريق الجنة؛ ورحمة للمنافقين، حيث أمنوا القتل؛ ورحمة للكافرين بتأخير العذاب‏.‏ وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ من آمن بالله ورسوله فله الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي أن يصيبه ما كان يصيب الأمم السالفة قبل ذلك؛ فهو رحمة للمؤمنين والكافرين‏.‏ وذكر في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام‏:‏ يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين‏}‏، فهل أصابك من هذه الرحمة‏؟‏ قال‏:‏ نعم أصابني من هذه الرحمة‏.‏ أني كنت أخشى عاقبة الأمر، فآمنت بك لثناء أثنى الله تعالى عليّ بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ * مطاع ثَمَّ أَمِينٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 20/21‏]‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله واحد‏}‏، أي ربكم رب واحد‏.‏ ‏{‏فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ‏}‏‏؟‏ أي مخلصون بالتوحيد، ويقال‏:‏ مخلصون بالعبادة‏.‏ اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الأمر يعني‏:‏ أسلموا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏؛ قال‏:‏ فإن أعرضوا عن الإيمان، ‏{‏فَقُلْ ءاذَنتُكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أعلمتكم ‏{‏على سَوَاء‏}‏، أي على بيان علانية غير سر؛ ويقال‏:‏ أعلمتكم بالوحي الذي يوحى إليّ، لنستوي في الإيمان به؛ ويقال‏:‏ معناه أعلمتكم، فقد صرت أنا وأنتم على سواء‏.‏ وهذا من الاختصار‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَدْرِى‏}‏، يعني‏:‏ وما أدري، ‏{‏أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ‏}‏ من نزول العذاب بكم في الدنيا فقل لهم‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول‏}‏، يعني‏:‏ العلانية‏.‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ‏}‏، يعني‏:‏ ما تسرون من التكذيب بالعذاب‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَدْرِى‏}‏، يعني‏:‏ وما أدري ‏{‏لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ‏}‏، لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا فتنة لكم، لأنهم كانوا يقولون‏:‏ لو كان حقاً لنزل بنا العذاب‏.‏ ‏{‏ومتاع إلى حِينٍ‏}‏، أي بلاغ إلى منتهى آجالكم، يعني‏:‏ تعيشون إلى الموت‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبّ احكم بالحق‏}‏، يعني‏:‏ اقض بيني وبين أهل مكة بالعدل، ويقال‏:‏ بالعذاب ‏{‏وَرَبُّنَا الرحمن‏}‏، أي العاطف على خلقه بالرزق‏.‏ ‏{‏المستعان على مَا تَصِفُونَ‏}‏، يعني‏:‏ أستعين به على ما تقولون وتكذبون؛ ويقال‏:‏ المطلوب منه العون والنصرة‏.‏ وروي عن الضحاك أنه قرأ ‏{‏قُل رَّبّ * احكم بالحق‏}‏ على معنى الخبر على ميزان افعل، يعني‏:‏ هو أحكم الحاكمين‏.‏ قال‏:‏ لأنه لا يجوز أن يسأل أن يحكم بالحق، وهو لا يحكم إلاَّ بالحق‏.‏ وقرأه العامة ‏{‏قُل رَّبّ *** أَحْكَمُ‏}‏ على معنى السؤال؛ معناه احكم بحكمك‏.‏ ثم يخبر عن ذلك الحكم أنه حق، قرأ عاصم في رواية حفص ‏{‏قَالَ رَبّ احكم‏}‏ على معنى الحكاية؛ وقرأ الباقون ‏{‏قُل رَّبّ *** أَحْكَمُ‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عامر في إحدى الروايتين ‏{‏على مَا * يَصِفُونَ‏}‏ بالياء بلفظ المغايبة، وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة، وقرأ حمزة ‏{‏الزبور‏}‏ بضم الزاي؛ وقرأ الباقون بالنصب؛ والله أعلم بالصواب‏.‏